الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
وهي مأمورات ومنهيات، فمن المأمورات: الإخلاص، واليقين، والتقوى، والصبر، والرضى، والقناعة، والزهد، والورع، والتوكل، وسلامة الصدر، وحسن النظر، وسخاوة النفس، ورؤية المنة، وحسن الخلق، ونحوها من أعمال القلوب، ومن المنهيات: الغل، والحقد، والحسد، والبغي، والغضب لغير الله تعالى، والغش، والكبر، والعجب، والرياء والسمعة، والبخل، والإعراض عن الحق استكبارا، والطمع، وخوف الفقر، والسخط بالقضاء، وتعظيم الأغنياء لغناهم، والاستهانة بالفقراء لفقرهم، والفخر، والخيلاء، والتنافس في الدنيا، والمباهاة، والتزين للمخلوقين، والمداهنة، وحب المدح بما لم يفعل، والاشتغال بعيوب الخلق عن عيوب النفس، ونسيان النعمة، والرغبة والرهبة لغير الله. مسألة التقوى من الوقاية؛ لأن طاعة الله تقي عذابه كاتقاء السهم بالترس، والتقي جمع تقاة واختلف العلماء في حقيقتها شرعا، فقال أهل الحق: هي اجتناب الكبائر والصغائر؛ لأن في الجميع عقوبة، وقالت المعتزلة: هي اجتناب الكبائر فقط، لقوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم" وإذا كانت الكبائر يقينا اجتنابها عذاب الصغائر لم يكن اجتناب الصغيرة تقوى؛ لأنه لا يحسن فيمن بينه وبين السهام جدار أن يقال اتقى السهام بترسه، وجوابه: أن الصغيرة فيها التعزير والذم عاجلا، والعقوبة آجلا، فاجتناب الكبيرة إنما يقي العقوبة الآجلة، وبقي التعزير والذم فيدفعان باجتناب الصغيرة، فصح أن اجتنابها تقوى شرعية، ودل على هذا أيضا قوله عليه السلام: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر المقابر والبلا. مسألة ليس الزهد عدم ذات اليد، بل عدم احتفال القلب بالدنيا وإن كانت في ملكه، فقد يكون الزاهد من أغنى الناس وهو زاهد، وقد يكون الشديد الفقر غير زاهد بل في غاية الحرص بحسب ما اشتمل عليه قلبه من الرغبة في الدنيا، والزهد في المحرمات واجب، وفي الواجبات حرام، وفي المندوبات مكروه، وفي المباحات مندوب وإن كانت مباحة؛ لأن الميل إليها يفضي لارتكاب المحظور أو المكروه، فتركها من باب الوسائل المندوبة. مسألة اختلف الفقهاء في أول العصر الذي أدركته: هل يدخل الزهد والورع في المباح؟ فسلمه بعضهم ومنعه آخرون، وصنف بعضهم على بعض وأكثروا التشنيع، فقال الأنباري رحمه الله: لا يدخل الورع فيها؛ لأن الله تعالى سوى بين طرفيها، والورع مندوب، والندب مع التسوية متعذر، وعمل في ذلك مجلدا، وقال بهاء الدين بن الحميري وغيره: بل تدخل، وما زال السلف الصالح على الزهد في المباحات، ونبه على ذلك قوله تعالى: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا" وغيره من النصوص، والكل على الصواب، وطريق الجمع أن المباح لا زهد فيه ولا ورع من حيث ذاته، وهما فيه من حيث أن الاستكثار من المباح يخرج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات وبطر النفوس، لقوله تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" إلى غير ذلك مما المباح وسيلة له، فهو مزهود فيه بالعرض لا بالذات، قال صاحب المقدمات: الزهد هو الورع، فالزهد في الحلال لا في الحرام، حفظ المال خوف المسألة مأمور به. مسألة الورع: هو ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس، وأصله قوله عليه السلام: الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه. وهو مندوب إليه، ومنه الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان، فإن اختلف العلماء في فعل هو مباح أم حرام فالورع (الترك، أو مباح أو واجب فالورع) الفعل مع اعتقاد الوجوب، أو مندوب أو حرام فالورع الترك، أو مكروه أو واجب فالورع الفعل، (أو مشروع أو غير مشروع فالورع الفعل)؛ لأن المثبت للشرعية مقدم كالبينة المثبتة، كاختلاف العلماء في شرعية الفاتحة في صلاة الجنازة، فمالك يقول: ليس بمشروعة، والشافعي يقول: مشروعة واجبة، فالورع القراءة؛ وكالبسملة قال مالك: مكروهة في الصلاة، وقال الشافعي (وأبو حنيفة): واجبة فالورع أن تقرأ، وعلى هذا المنوال، وهذا مع تقارب أدلة المختلفين، أما إذا كان أحد الدليلين في غاية الضعف بحيث لو حكم به حاكم لنقضناه لم يحس الورع، في مثل ما لو كان دليله فيما تدخله قضايا الحكام ولا ينقض، وأما إذا اختلفوا بالوجوب والتحريم فلا ورع، أو الندب والكراهة فلا ورع لتساوي الإقدام والإحجام. تنبيه: كثير من الفقهاء يعتقد أن المالكي يعتقد بطلان صلاة الشافعي إذا لم يتدلك في غسله أو يمسح جميع رأسه ونحوه وأن الشافعي يعتقد بطلان صلاة المالكي إذا لم يبسمل، وأن الورع صون العبادة ونحوها عن البطلان، وليس كذلك، وليس الورع لتحصيل صحة العبادة بل هي حاصلة إجماعا، وأجمع كل فريق مع خصمه على صحة تصرفاته وعباداته الواقعة على وجه التقليد المعتبر، وإنما الورع في الجمع بين الأدلة ليس إلا، فافهم ذلك، ونص جماعة من العلماء على أن من الورع معاملة أهل الذمة دون المسلمين معللا ذلك بوجهين: أحدهما: أنهم ليسوا مخاطبين بالفروع على أحد القولين، فلا تحرم عليهم المكاسب والعقود الفاسدة بخلاف المسلمين؛ وثانيهما: أن الكافر إذا أسلم لم يجب عليه رد الغصوب إذا كان حربيا، ولا رد الربا إذا كان ذميا، ولو تاب المسلم وجب عليه رد جميع ذلك لمكان التحريم في حقه أغلظ. مسألة التوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى فيما يجلبه من خير أو يدفعه من ضر. واختلف العلماء هل من شرطه ترك الأسباب، فنحا إليه الغزالي في إحياء علوم الدين وغيره، وقال المحققون لا يشترط ذلك، بل الأحسن ملابسة الأسباب للمنقول والمعقول. أما المنقول فقوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل" وقال تعالى: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا" وأمر تعالى بملابسة أسباب الاحتياط والحذر في غير موضع من كتابه العزيز، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - سيد المتوكلين وكان يطوف على القبائل ويقول: من يعصمني حتى أبلغ رسالات ربي. وكان له جماعة يحرسونه من العدو حتى نزل قوله تعالى: "والله يعصمك من الناس" ودخل مكة مظاهرا بين درعين في كتيبته الخضراء من الحديد، وكان في آخر عمره وأكمل أحواله يدخر قوت عياله سنة. وأما المعقول فهو: أن الملك العظيم إذا كانت له عوائد في أيام لا يحسن إلا فيها، أو أبواب لا يخرج إلا منها، أو أمكنة لا يوقع إلا فيها، فالأدب معه أن لا يطلب منه فعل إلا حيث عوده، وأن لا يخالف عوائده بل يجري عليها، والله سبحانه وتعالى ملك الملوك وأعظم العظماء بل أعظم من ذلك، رتب ملكه على عوائد أرادها، وأسباب قدرها وربط بها آثار قدرته، ولو شاء لم يربطها، فجعل الري بالشرب، والشبع بالأكل، والاحتراق بالنار، والحياة بالتنفس في الهواء، فمن رام من الله تعالى تحصيل هذه الآثار بدون أسبابها فقد أساء الأدب، بل يلتمس فضل الله تعالى في عوائده. وقد انقسمت الخلائق في هذا المقام ثلاثة أقسام، قسم عامَلُوا الله تعالى باعتماد قلوبهم على قدرته مع إهمال الأسباب والعوائد، فلجوا في البحار في زمن الهول، وسلكوا القفار العظيمة المهلكة بغير زاد، إلى غير ذلك من جنس هذه التصرفات فهؤلاء فاتهم الأدب، وهم جماعة من العباد، وقسم لاحظوا الأسباب وأعرضوا عن التوكل، وهم عامة الخلق وهم شر الأقسام وربما وصلوا بذلك للكفر، وقسم اعتمدت قلوبهم على قدرة الله تعالى وطلبوا فضله في عوائده ملاحظين في تلك الأسباب مسببها وميسرها، فجمعوا بين التوكل والأدب، وهؤلاء هم النبيون والصديقون، وخاصة عباد الله العلماء بالله والعارفون بمعاملته، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. مسألة حسن الخلق هو الاتصاف بمحاسن الشريعة أو التسبب إليها، وسوء الخلق هو ارتكاب مناهي الشريعة أو التوسل إليها، وتحت هذه الجملة أمور لا يحصيها الضبط، قال ابن يونس: ينبغي للقاضي أو الأمير أن لا يكون من شأنه حب المدح وأن يعرف الناس منه ذلك فيقتحمون عليه منه فيضحكون منه به ويغتابونه به، بل تكون همته في ثلاث خصال: في رضى ربه، ورضى سلطانه إن كان فوق الأمير أو القاضي سلطان، ورضي صالح من يلي عليه. وكان الشافعي رضي الله عنه يقول: لما رأيت الناس لا يجتمعون على حالة أخذت لنفسي بالذي أولى بها، ونظم هذا المعنى الشيخ الحافظ زين الدين ابن عبد العظيم المحدث في مدرسة الكامل: اعمل لنفسك صالحا لا تحتفل = بكبير قيل في الأنام وقال فالناس لا يرجى اجتماع قلوبهم =لا بد من مثن عليك وقال مسألة الحسد: تمني القلب زوال النعمة عن المحسود واتصالها بك، وهو أخف الحسدين، وشرهما تمني زوالها وإن لم تصل إليك، وأصل تحريمه الكتاب والسنة والإجماع، فالكتاب قوله تعالى: "ومن شر حاسد "،" أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " وقوله تعالى: (ولا تمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) والسنة قوله عليه السلام: لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا. وأجمعت الأمة على تحريمه، والفرق بينه وبين الغبطة تمني مثل ما لغيرك لا عين ما لغيرك، وقد يعبر عنها بالحسد لما بينهما من المشابهة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنين رجل آتاه الله القرآن يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، (ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وأطراف النهار) أي: لا غبطة إلا في هاتين على وجه المبالغة، وهي أول معصية عُصِيَ الله بها في الأرض، حسد إبليس آدم. مسألة الكبر لله على أعدائه حسن، وعلى عباده احتقارا لهم حرام وكبيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر، فقالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعلُه حسنة، فقال: إن الله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر بطر الحق وغمض الناس. قال العلماء: بطر الحق رده على قائله، وغمض الناس: احتقارهم، وقوله عليه السلام: لن يدخل الجنة. وعيد عظيم يقتضي أن الكبر من الكبائر، وعدم دخوله الجنة مطلقا عند المعتزلة؛ لأن صاحب الكبيرة عندهم مخلد، وعند أهل الحق: لا يدخل في وقت يدخلها غير المتكبرين أي في المبدأ، والنفي العام قد يراد به الخاص إذا اقتضته النصوص والقواعد، والكبر من أعظم ذنوب القلب، نسأل الله العافية، حتى قال بعض الأولياء: كل ذنوب القلب يكون معه الفتح إلا الكبر، والفرق بينه وبين العجب أن العجب رؤيته للعبادة والكبر راجع للخلق. مسألة الرياء: هو إيقاع القربة يقصد بها الناس، فلا رياء في غير قربة، كالتجمل باللباس ونحوه لا رياء فيه، وإرادة غير الناس بالقرب ليس رياء كمن حج ليتجر أو غزا ليغنم لا يفسد بذلك قربته، والرياء قسمان: رياء إخلاص وهو أن لا يفعل القربة إلا للناس، ورياء شرك وهو أن يفعلها لله تعالى وللناس وهو أخفهما، وهو محرم بالإجماع وبقوله تعالى: "الذين هم يراءون ويمنعون الماعون" ومتى شمل الرياء العبادة بطلت إجماعا لقوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته للشريك. فإن شمل بعض العبادة وهي مما يتوقف آخرها على أولها كالصلاة فقد وقع للعلماء في صحتها تردد حكاه المحاسبي في الرعاية والغزالي في الإحياء، ومتى عرض الرياء في العبادة قبل الشروع فيها أمر بدفع الرياء وعمل العبادة، فإن تعذر عليه ولصق الرياء بصدره فإن كانت القربة مندوبة تعين الترك لتقدم المحرم على المندوب، أو واجبة أمر بمجاهدة النفس؛ إذ لا سبيل لترك الواجب. وأغراض الرياء ثلاثة: استجلاب الخيور، ودرء الشرور، والتعظيم من الخلق، وبسط هذا الباب ومداواته إذا عرض مبسوط في كتاب الرقائق، ومما يلحق بالرياء ترك العمل خشية الرياء فإن العبد مأمور بطاعة الله وترك المفسدات لا بترك العمل لأجل المفسدات. فرع: قال ابن أبي زيد: قيل لمالك: المصلي لله يقع في نفسه محبة علم الناس به وأن يكون في طريق المسجد، قال: إن كان (أول) ذلك لله فلا بأس. قلت: كون العبد يحب أن يعظمه الناس غير العمل لهذا الغرض، الأول جبلي، والثاني كسبي وتحويل للطاعة عن موضعها. فرع: التسميع حرام وهو غير الرياء؛ لأنه إن عمل العمل خالصا ثم يخبر به الناس لغرض الرياء من التعظيم وغيره فهو يعد العمل، والرياء مقارن، وفي الخبر: من سمع سمع الله به يوم القيامة. أي: ينادي به يوم القيامة: هذا فلان عمل لي عملا ثم أراد به غيري. مسألة السخط بالقضاء حرام إجماعا، قال صاحب الجواهر وغيره: السخط بالمقدور، وهي عبارة رديئة، قال المحققون يجب الرضى بالقضاء دون المقضي وبالقدر دون المقدور، وتحريره أن الطبيب إذا وصف للعليل دواء مرا أو قطع يده المتآكلة، فإن قال: بئس ما وصف الطبيب فهو بغض وسخط بقضاء الطبيب، وإن قال: نعم ما صنع غير أني وجدت للقطع ومرارة الدواء ألما كثيرا فإن ذلك ليس قدحا في الطبيب، بل الأول قدح فيه وطعن عليه، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضى بالقضاء بل عدم رضى بالمقضى، وإن قال: أي شيء عملت حتى أصابني هذا وما ذنبي وما كنت استأهله، فهذا عدم رضى بالقضاء لا بالمقضي، فتأمل هذا فهو حسن. تنبيه: كل مؤلم للمؤمن كفارة له، لقوله عليه السلام: لا يصيب المؤمنَ وصب ولا نصب حتى الشوكة يطؤها إلا كفر الله بها من ذنوبه. والسخط معصية، والصبر قربة وعمل صالح، فإذا تسخط حصلت سيئة قدر التي كفر بها المصيبة أو أقل وأعظم بحسب كثير السخط وقليله، وعظم المصيبة وصغرها، فإن التكفير تابع لذلك، فالتكفير واقع قطعا سخط أو صبر، غير أنه إن صبر اجتمع التكفير والأجر، وإن سخط قد يعود المكفر بما جناه ثانيا بالتسخط أو أقل منه أو أكثر، وعليه يحمل ما في بعض الأحاديث من ترتيب المثوبات على المصائب أي إذا صبر، وإلا فالمصيبة لا ثواب فيها قطعا من جهة أنها مصيبة؛ لأنها ليست من كسبه، ولا ثواب إلا من مكتسب، والتكفير يكون بغير المكتسب كالعذاب وسائر العقوبات. مسألة المداهنة قد تكون مباحة أو واجبة، كما قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم، فيجوز أن يفعل مع الفاسق من الوداد ظاهرا ما يعتقد خلافه، وإنما يحرم من المداهنة ما كان على باطل، وأما لأجل التقية والتودد لدفع الضرر بكلام صدق بأن يشكره بما فيه من خير، فإن ما من أحد وإن كثر فجوره وفحشه إلا وفيه خير. مسألة الرغبة والرهبة لغير الله تعالى إن أريد بها خوف الظلمة أو السباع أو الغلاء أو الأمراض إن سلط الله تعالى بعض ذلك، فهذا لا ينهى عنه، وقد يؤمر به كما أمرنا أن لا تقدم على الوباء وأن نفر من المجذوم فرارنا من الأسد، وإن أريد بها أنا نخاف الأسباب والخلق من حيث هم هم بحيث نعصي الله تعالى لأجلهم فهذا حرام، وهو معنى قوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله" قال أرباب المعاني: فتنة الناس مؤلمة وعذاب الله كذلك، فالشبه واقع، فلم أنكر التشبيه؟ وأجابوا بأن عذاب الله تعالى حاثٌّ على طاعته ومانع من مخالفته، هذا وضعه، فمن أوذي في طاعة الله أي بسببها فجعل ذلك حاثا على طاعة الخلق في موافقتهم على ترك الطاعة وملابسة المعصية فهذا جعل فتنة الناس كعذاب الله، فاستحق الذم في إيقاع الشبه بينهما من هذا الوجه. مسألة التطير والطيرة حرام، لما في الحديث أنه عليه السلام كان يحب الفال ويكره الطيرة، ولأنها من باب سوء الظن بالله تعالى، والفرق بينهما أن التطير هو الظن السيء بالله، والطيرة هو الفعل المرتب عليه، ولا يكاد المتطير يسلم مما تطير منه إذا فعله، وغيره لا يتأذى به. سئل عن ذلك بعض العلماء فقال: المتطير اعتقد أن الله يضره فضره عقوبة له على سوء الظن، وغير المتطير لم يسئ ظنه بالله فلم يؤاخذه، وأصل ذلك قوله عليه السلام حكاية عن الله: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء، وفي رواية: فليظن بي خيرا. ثم هذا المقام يحتاج إلى تحقيق، فإن الإنسان لو خاف الهلاك عند ملاقاه السبع لم يحرم إجماعا، فيتعين أن الأشياء في العالم قسمان: ما جرت العادة بأنه مؤذ كالسموم والسباع ومعاداة الناس والتخم وأكل الأغذية الثقيلة المنفخة عند سيئ الهضم ونحوها، فالخوف في هذا القسم ليس حراما؛ لأنه خوف عند سبب محقق في مجاري العادات، قال صاحب القبس: قال بعض العلماء: لا عدوى محمول على بعض الأمراض، بدليل الوباء، وقسم لم تطرد العادة بأذيتة كالشق والعبور بين الغنم وشراء الصابون يوم السبت ونحوها، فهذا حرام الخوف منه؛ لأنه سوء ظن بالله من غير سبب، ومن الأشياء ما هو قريب من أحد القسمين ولم تتمحض كالعدوى في بعض الأمراض ونحوها، فالورع ترك الخوف حذرا من الطيرة، ومن ذلك الشؤم الوراد في الأحاديث: ففي الصحاح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشؤم في الدار والمرأة والفرس. وفي بعضها: إن كان ففي الدار والمرأة والفرس. قال صاحب المنتقى: يحتمل أن يكون معناه كما قاله بعض العلماء إن كان الناس يعتقدون الشؤم فإنما يعتقدونه في هذه الثلاث، أو إن كان معناه واقعا في نفس الأمر ففي هذه الثلاث، وقيل: أخبر بذلك مجملا أوّلا، ثم أخبر به واقعا في الثلاث، فلذلك أحل ثم حرم، كما قال في الدجال: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن لم أكن فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي عليكم، ثم أخبر عليه السلام أن الدجال إنما يخرج في آخر الزمان وكذلك سئل - عليه السلام - عن أكل الضباب فقال: إنه قد مسخت أمة من الأمم وأخشى أن يكون منهم، أو ما هذا معناه، ثم أخبر أن المسوخ لم تعقب، فقد أخبر بالمسخ مجملا، ثم أخبر به مفصلا، وهو كثير في السنة، فتنبه لهذه القاعدة، فبها يحصل لك الجمع في كثير من الأحاديث. ولا مانع أن تجري عادته أن يجعل هذه الثلاث أحيانا سببا للضرر، ففي الصحاح: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها ذميمة. وعن عائشة رضي الله عنها: إنما تحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أقوال الجاهلية في الثلاث. قال الباجي: ولا بعد أن يكون ذلك عادة، وفي الموطأ قال عليه السلام لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض على الصحيح وليحل المصح حيث شاء. قال الباجي: قال ابن دينار: لا يعدي مريض مريضا خلافا لما كانت العرب تفعله وتعتقده فبين - عليه السلام - أن ذلك من عند الله تعالى. ولا هام، قال مالك معناه: ولا يتطير بالهام كانت العرب تقول إذا وقعت هامة على بيت خرج منه ميت، وقيل معناه: أن العرب كانت تقول: إذا قتل أحد خرج من رأسه طائر لا يزال يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله، فعلى الأول يكون الخبر نهيا، وعلى الثاني يكون تكذيبا. ولا صفر هو الشهر الذي كانت الجاهلية تحرم فيه شهر صفر لتستبيح المحرم، وقيل كانت الجاهلية تقول هو داء في الفرج يقتل، فقال عليه السلام لا يموت إلا بأجله. والممرض ذو الماشية المريضة، والمصح ذو الماشية الصحيحة، قال ابن دينار: لا يؤذي الممرض المصح بإيراد ماشيته على ماشيته فيؤذيه بذلك، ونسخ بقوله لا عدوى، وقيل لا يحل المجذوم محل الصحيح معه يؤذيه، وإن كان لا يعدي فالنفس تكرهه، فهو من باب إزالة الضرر لا من العدوى، وقيل هو ناسخ لقوله عليه السلام: لا عدوى. تنبيه: قال الطرطوشي: إن أخذ الفال بالمصحف وضرب الرمل والشعير ونحوه حرام، وهو من باب الاستقسام بالأزلام مع أن الفال حسن بالسنة، وتحريره أن الفال الحسن هو ما يعرض من غير كسب مثل قائل يقول: يا مفلح ونحوه، والتفاؤل المكتسب حرام، كما قاله الطرطوشي في تعليقه. ففي الجواهر: يسمي الله تعالى على الأكل والشرب عند الابتداء ويحمده عند الانتهاء للحديث الصحيح في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده في الطعام قال: باسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وإذا فرغ منه قال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ولا يأكل متكئا، لقوله عليه السلام: وأما أنا فلا آكل متكئا، قيل: معناه على جنبه، وقيل يتهيأ للطعام تهيئا كليا اهتماما به. وسئل مالك عن الرجل يأكل واضعا يده اليسرى على الأرض، فقال: إني لأتقيه وأكرهه وما سمعت فيه شيئا؛ لأن فيه معنى الاتكاء. ويأكل بيمنيه ويشرب بيمينه، لقوله عليه السلام: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه ولا يأكل بشماله، فإن الشيطان يأكل بشماله. ويأكل مما يليه إلا أن يكون الطعام مختلفا ألوانا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع أعرابي ثريدا فجعل الأعرابي يتعدى جهته، فقال له عليه السلام: كل مما يليك، فلما حضر التمر جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من جهات عديدة فقال له الأعرابي كل مما يليك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك في الثريد أو نحوه، ولأنه مع عدم الاختلاف سوء أدب من جهة وضعه أصابعه الواصلة إلى فمه وربما استصحبت ريقه بين يدي جليسه من غير حاجته لذلك، ومع الاختلاف الحاجة داعية لذلك، ورخص الشيخ أبو الوليد أن يتعدى ما يليه مطلقا إذا أكل مع أهله ومع من لا يلزمه الأدب معه، وقاله مالك، وعن أنس بن مالك أنه أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتتبع الدباء حول القصعة، وإذا كان جماعة فأدير عليهم ما يشربون من لبن أو ماء أو نحوه فليأخذه بعد الأول الأيمن فالأيمن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب وعن يساره أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن يمينه أعرابي، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي لأبي بكر، فقال لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فدل على أنه حق له، ولأن اليمين أفضل فيقدم. وينبغي أن يأكل الإنسان مع القوم مثل ما يأكلون من تصغير اللقم وإطالة المضغ والرسل في الأكل وإن خالف ذلك عادته، وينبغي أن لا ينهم في الأكل ويكثر منه، لقوله عليه السلام: ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، وينبغي أن يجعل ثلث بطنه للطعام وثلثه للماء وثلثه للنفس، كذلك ورد الحديث. ويغسل يديه من الدسم وفاه وإن كان لبنا، وأما تعمد الغسل للأكل فكرهه مالك وقال هو زي الأعاجم، وفي الصحيح قال عليه السلام: الغسل قبل الطعام أمان من الفقر، وبعده أمان من اللمم. قال أرباب المعاني: إنما أمن من الفقر؛ لأن الله تعالى أجرى عادته أن من استهان بالطعام سلط الله عليه الجوع بالقحط وغيره، وإذا لم يغسل قبل الطعام فقد أهانه بخلط الوسخ الذي على اليد معه فيخشى عليه الفقر، وإن لم يغسل بعد الطعام خشي عليه إلمام الجان به؛ لأنهم إنما يعيشون بالروائح، فإذا شموه ربما عبثوا به، وبهذا يظهر قول مالك: إنه إذا لم يكن على يده وسخ لا يغسل؛ لأنه إفساد للماء بغير حكمة. ولا ينفخ في طعامه وشرابه لما يخشى من خروج ريقه مع النفخ فهو قذارة، ولا يتنفس في الإناء ولكن ينحيه عن فيه، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب وينحي عن فيه ثم يشرب، ولأن النفس تنبعث معه الفضلات فيفسد الماء وينتن الإناء مع الطول؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما وشرب قائما ليدل على الجواز، وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم كانوا يشربون قياما، وكانت عائشة وغيرها لا ترى بالشرب قائما بأس، قال الباجي: على هذا جماعة العلماء، وكرهه قوم لما في مسلم: لا يشرب أحد منكم قائما فمن نسي فليبصق، قال والأصح أنه موقوف على أبي هريرة، أو يحمل على أنه شرب قائما وأصحابه جلوس فلم يوافقهم فيه ويكون آخرهم شربا، ولا خلاف في جواز الأكل قائما، قال النخعي: إنما كره الشرب قائما لداء يحصل في الجوف. ولا يقرن التمر لنهيه عليه السلام عنه، إلا أن يقرن من معه ولو كان هو الذي أطعمهم، ولو أكل مع من لا يلزمه الأدب معه من أهله وولده لجاز له ذلك، وقيل إنما نهى لله عن القران لئلا يستأثر الأكل على من معه بأكثر من حقه، قال الشيخ أبو الوليد: فعلى هذا يجوز له ذلك إذا كان هو الذي أطعمهم وإن كانوا لا يقرنون، ثم قال: والأظهر أن يكون النهي عن ذلك للمعنيين فلا يأكل قرانا وإن كان هو الذي أطعمهم. ومن أكل ثوما نيئا فلا يقرب المساجد، لقوله عليه السلام: من أكل من هذه الشجرة فلا يقربن مساجدنا يؤذينا بريح الثوم. وكذلك البصل والكراث إن كان يؤذي مثله قياسا عليه. فرع: في المنتقى: إذا رأى في إنائه قذاة أراقها إن كانت في ماء، وإن كانت في لبن أزالها لسهولة الماء دون غيره، لما في الموطأ قال رجل: يا رسول الله، إني لا أروى من نفس واحد، فقال عليه السلام: أبن القدح عن فيك ثم تنفس، قال: فإني أرى القذاة فيه، قال: أهرقها. فرع: قال ابن يونس: روى ابن وهب في الجلجلان والفول وشبهه لا بأس أن يتوضأ به في الحمام ويدهن جسمه بالسمن والزيت من الشقاق، قال ابن أبي زيد: قيل لمالك أيغسل يده من الدقيق، قال: غيره أعجب إلي ويجوز. فرع: قال ابن أبي زيد وابن يونس: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل الرطب بالبطيخ، هذا بيد وهذا بيد. وهو يدل على أن هذا مستثنى من الأكل بالشمال. وفي المقدمات هو خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومحظور، ومكروه؛ وعام وخاص؛ ولحق الله تعالى ولحق اللابس، فالواجب لحق الله تعالى ستر العورة عن أبصار المخلوقين، وهو عام في جميع الرجال والنساء، والواجب لحق اللابس ما يقي الحر والبرد ويدفع الضر في الحرب صونا للنفس، وهو عام في الرجال والنساء، والمندوب لحق الله تعالى كالرداء للإمام والخروج للمسجد للصلاة لقوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد" والثياب الحسنة للجمعة والعيدين لقوله عليه السلام: ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته. والمندوب لحق اللابس ما تجمل به من غير سرف، لقوله عليه السلام للذي نزع الثوبين الخلقين ولبس الجديدين: ماله ضرب الله عنقه أليس هذا خير له، وقال عمر رضي الله عنه: إني لأحب أن أنظر إلى القارئ أبيض الثياب، وقال رضي الله عنه إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، وهو عام في الرجال والنساء، والمباح ثياب الكتان والقطن والصوف غير السرف، وهو عام، والمحظور ثياب الحرير لقوله عليه السلام في حلة عطارد: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، وقوله عليه السلام في الحرير والذهب: هذان حل لإناث أمتي محرم على ذكورهم. فهو خاص للرجال، وقيل مباح لهم في الحرب عن مالك، ومجمع عليه في غير الحرب إلا لضرورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير ابن العوام في قميص الحرير للحكة، وكرهه مالك إذ لم يبلغه الحديث، وروي عنه الترخيص فيه، قال ابن يونس: كره مالك الحرير للصبيان كالذهب. مسألة قال في المقدمات: التختم بالذهب يجوز للنساء دون الرجال، وبالفضة مباح لهما، والذي نبذه عليه السلام خاتم ذهب فخلع الناس خواتمهم، ومنهم من كرهه مطلقا إلا لذي سلطان، والجمهور أن يلبس في الشمال؛ لأن التناول باليمين فيجعله في اليسار، واختار بعضهم اليمين؛ لأنه مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه من الزينة فيختص به اليمين، كما تؤثر اليمنى بالانتعال، وقد يكون فيه اسم الله تعالى فلا يحتاج لخلعه عند قضاء الحاجة في الاستنجاء، ولا يجوز التختم بالحديد؛ لأنه حلية أهل النار، ولا بالشبه لنهيه عليه السلام عنه، وقد أجاز ذلك والتختم بالذهب للرجال من لم يبلغه النهي، وهو شاذ، قال ابن يونس: كره مالك أن يجعل في خاتمه مسمار ذهب أو يخلطه بحبة ذهب لئلا يصدأ، ولا بأس بربط الأسنان بالذهب، وكره للمرأة دملج الحديد، وفي القبس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم شبه يعني الصفر، فقال له: إني أجد منك ريح الأصنام. وجاء إليه آخر وعليه خاتم حديد فقال: مالي أرى عليك حلية أهل النار، وجاء إليه آخر وعليه خاتم من ذهب، فقال: اطرح عنك حلية أهل الجنة، وروي أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم من حديد قد لوى عليه بفضة، وقال علي - رضي الله عنه - نهاني النبي صلى الله عليه وسلم أن أتختم في الوسطى والسبابة، فتأوله الترمذي على كراهة التختم فيهما، قال: وليس كذلك، بل ذلك من باب تشبه الرجال بالنساء في التختم في الأصابع كلها. فرع: وفي المقدمات: ومن المحرم المخيط في الإحرام والجلوس على بسط الحرير، والارتفاق بمرافق الحرير، ويجوز ذلك للنساء عند من رأى ذلك لباسا، قال فوجب أن يكون، بدليل حديث أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس، فسمى الجلوس لباسا، قال فوجب أن يكون لباسا، قال ومن جهة المعنى النهي عن الحرير إنما جاء للتشبه بالكفار، فيجتنب الجلوس عليه نفيا للتشبه بهم، وأما الستور التي توضع في البيوت معلقة فلا بأس بها؛ لأنها لباس الحيطان وهم غير مكلفين، ورخص بعض العلماء الجلوس على بسط الحرير والارتفاق بمرافقه، وقاله عبد الملك ولم يره لباسا، والجمهور أنه لباس. مسألة قال: ومن المحرم على النساء دون الرجال الذي يصف من الثياب، لقوله عليه السلام: نساء كاسيات عاريات الحديث. فرع: قال: اختلف في العلم من الحرير في الثوب، فأجازه بعض العلماء لنهيه - عليه السلام - عن لبس الحرير، وقال: لا يلبس منه إلا هكذا أو هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وأجازه عمر رضي الله عنه في مثل الأربعة أصابع. فرع: قال: الخز الذي سداه حرير فيه أربعة أقوال: قال ابن عباس: هو مباح مستوي الطرفين، ووافقه جماعة، وقيل حرام، وقيل في حلة عطارد السر التي قال فيها عليه السلام: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، إنها كانت يخالطها الحرير مضلعة بالخز، وهو مذهب مالك؛ وقيل مكروه، قال: وهو أقرب الأقوال للصحة؛ لأنه من الشبهات، ومورد النص إنما هو في الصرف، والرابع: الفرق بين الخز فيجوز اتباعا للسلف، وقد روى مطرف: أنه كان على مالك بن أنس كساء إبريسم، وبين غيره من الثياب المشوبة بالقطن والكتان فيمتنع؛ لأن الرخص لا يقاس عليها. فرع: قال في المقدمات: ومن المحرم الزائد الذي يخرج به صاحبه للخيلاء والكبر على الرجال والنساء، لقوله تعالى: "إن الله لا يحب كل مختال كفور" وقال عليه السلام: إن الله لا ينظر يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا، وفي الجواهر: ما سداه غير حرير مكروه خلاف لنقل المقدمات، فأجرى صاحب الجواهر الكراهة على ظاهرها، وتأولها أبو الوليد بالتحريم، ونقل ابن حبيب جواز الخز عن خمسة وعشرين من الصحابة، منهم عثمان وابن عباس، وخمسة عشر تابعيا، وفي المنتقى: الخز حرير ووبر، قال صاحب المنتقى: مذهب مالك الكراهة فيما سداه حرير ولحمته غيرها؛ لأن حرير مستهلك لا يمكن تخليصه، قال صاحب القبس: الخز سداه حرير ولحمته صوف أو كتان أو قطن، قال في المنتقى: واليسير ما كان فيه خطوط، ولعله عليه السلام إنما نهى عنه؛ لأن أكثرها كان حريرا سداها وبعض لحمتها ووافقه صاحب المنتقى أنه ما لحمته وبر. فرع: قال: ومن المحرم اشتمال الصماء، وهي أن يلتحف في الثوب ويرفعه ويلقيه على أحد منكبيه ويخرج يده من تحته، والاحتباء وهو أن يجلس ويضم ركبتيه إلى صدره ويدير ثوبه من وراء ظهره إلى أن يبلغ به ركبتيه ويشده حتى يكون كالمعتمد عليه، فهذا إذا فعله بدت عورته إلا أن يكون تحته ثوب، ولذلك إذا كان مع اشتمال الصماء إزار يجوز، وقيل يمتنع إن كان عليه إزار لورود النهي عن هاتين اللبستين. فرع: قال: اللباس المكروه ما خالف زي العرب وأشبه زي العجم، ومنه التعميم بغير التحاء، وقد روى أن تلك عمة الشيطان وصفة عمائم قوم لوط، [وأمر عليه السلام بالتحلي ونهى عن الانتعاط وهو التعميم بغير ذؤابة ولا حنك، قاله في المنتقى] وسئل مالك عن الصلاة بغير حنك، فقال: لا بأس بذلك كأنه استعظم السائل ذلك، وما أفتى مالك حتى أجازه أربعون محنكا، دل على أنه شعار العلماء، وفي التلقين: من المكروه التلثم وتغطية الأنف في الصلاة. فرع: في الجواهر: لا يلبس القباء الحسن؛ لأنه شهرة، وسئل مالك عن لباس الصوف فقال: لا خير في الشهرة، ولو كان يلبسه تارة ويتركه أخرى لرجوت، ومن غليظ القطن ما هو بثمنه. فرع: قال: من المحرم تشبه النساء بالرجال، والرجال بالنساء في اللبس والتختم وغير ذلك، ملعون فاعله كالمخانيث ونحوهم، وعن مالك: لا يعجبني اكتحال الرجل بالإثمد، وما كان من عمل الناس، وما سمعت فيه شيئا؛ لأن فيه زينة تشبه حال النساء. فرع: [قال] تحرم إضافة شيء من الحرير للثياب وإن قل، وقيل يجوز اتخاذ الطوق منه واللبنة، لما جاء في الحديث من استثناء العلم، وقال ابن حبيب: يجوز وإن عظم ولم يختلف فيه وفي الصلاة فيه، ولم يجز مالك في الثوب إلا الخط الرقيق، قال: ولا بأس أن يخاط الثوب بالحرير، قال ابن حبيب: ولا يستعمل ما بطن بالحرير أو حشي أو رقم، قال القاضي أبو الوليد: يريد إن كان كثيرا، وجوز ابن القاسم راية منه في أرض الحرب. فرع: قال يحرم على الرجل أن يجاوز بثوب الكعبين، ويستحب أن يكون في أنصاف الساق إلى ما فوق الكعبين، ففي الصحيح: سترة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، فإن زاد فإلى الكعبين، فما زاد ففي النار. فائدة: زاد يكون قاصرا لا مفعول له، ومتعديا، فإن كان هنا قاصرا نحو زاد المال يكون التقدير فصاحبه في النار، وإن كان متعديا، نحو (وزدناهم هدى) يكون التقدير فزائده في النار. فرع: قال: يجوز نقش اسم الله تعالى في الخاتم، وكان نقش خاتم مالك حسبي الله ونعم الوكيل، وقال ابن أبي زيد: قيل لمالك: أفتجعل فصة للكف؟ قال: لا. فرع: قال في المقدمات: يستحب في الانتعال الابتداء باليمين في اللبس وباليسار في الخلع، وهي قاعدة البداية في كل كمال باليمين وفي كل نقص بالشمال، والنقص في الخلع؛ لأنه تعرية، ويقدم اليمين في الخروج من الخلاء دون دخوله، وفي دخول المسجد دون خروجه، وعلى هذا فقس. ولا يمشي في نعل واحدة ولا يقف فيه إلا أن يكون المشي الخفيف، للنهي عن ذلك، بخلاف أن يشتغل بلبس الأخرى ويلبسهما جميعا أو يخلعهما، وفي المقدمات: النهي عن المشي في نعل واحدة نهي أدب، لما فيه من السماجة ومخالفة العادة، لا نهي تحريم خلافا لأهل الظاهر، فإن انقطع قبال نعله اختلف المذهب في إباحة وقوفه في نعل حتى يصلح الأخرى، أجازه ابن القاسم ومنع أصبغ إلا أن يطول ذلك، ومنعا معا المشي فيها حتى يصلح الأخرى في وقت الإصلاح. فرع: قال: ستر الجدر منهي عنه لما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تستر الجدر إلا جدار الكعبة. فرع: في المنتقى قال مالك: لم أدرك أحدا يرسل ذؤابته بين كتفيه إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وبين اليدين أجمل. فرع: قال القلنسوة ليست بدعة، وقد كانت لخالد بن الوليد قلنسوة. فرع: قال: يباح الممشق (المصبوغ بالمشق وهو المغرة اتفاقا) والمصبوغ بالزعفران، كان عبد الله بن عمر يلبسه، وأباحه مالك وكرهه بعض التابعين لما روي عنه عليه السلام أنه كان ينهى أن يتزعفر الرجل، ويحتمل حمله على المحرم، لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصبغ بالصفرة وهو عام، أو يكون النهي عن استعماله في الجسد لما فيه من التشبه بالنساء. فرع: قال: كره مالك للصبيان لبس الذهب، قال ويحتمل ذلك الكراهة لمن يلبسهم إياه؛ لأنهم من جنس يحرم عليه ولم يصل التحريم لعدم التكليف، ويحتمل الكراهة على الصبي اللابس؛ لأنهم يندبون فيكون لهم ذلك، وهو ظاهر قوله، لعموم النهي، ولئلا يعتادونه فيبعثهم ذلك عليه عند الكبر فيكون ذلك وسيلة لفساد أخلاقهم، فكرهه لذلك ولم يحرمه. فرع: قال ابن يونس: قال مالك: لا بأس بالتقنع بالثوب لحر أو برد، ولغيره فلا، ورأت سكينة أو فاطمة بنت الحسين بعض ولدها متقنعا رأسه، فقالت: اكشف رأسك فإن القناع ريبة بالليل ومذلة بالنهار، ونهى عمر رضي الله عنه النساء عن لبس القباطي وقال: إن لم يكشف فهو يصف. فرع: قال: قال مالك: أحب إلي النعل المدور المخصر ويكون له عقب مؤخر، قال: ورأيت نعل النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقدير ما هي وهي مختصرة يختصرها من مؤخرها ويعقبه من خلفها، وكان لها زمامان في كل نعل، قال مالك ولا بأس بالانتعال قائما. فرع: قال ابن أبي زيد: قيل لمالك: المنطقه من شأن العجم، فهل يشدها على ثيابه من أراد السفر؟ قال لا بأس به. فرع: قال: قال مالك: لا يشرب من آنية فضة ولا قدح مضبب بفضة أو فيه حلقة فضة، وكذلك المرآة فيها حلقه فضة، وفي الجلاب: لا بأس باتخاذ الأنف من الذهب، ولا يجوز اتخاذ المجامر من الذهب أو الورق، وتكره حلقة المرايا وتضبيب الأقداح والأمشاط بالذهب والفضة. وفي المقدمات: يجوز دخول الحمام، إذا كان خاليا لا كراهة، وأما مستتر مع مستترين فعن ابن القاسم تركه أحسن خشية الاطلاع على العورة إذ لا يكاد يسلم من ذلك، وأما غير مستتر أو مع من لا يستتر فحرام؛ لأن ستر العورة فرض، وفاعل ذلك جرحة في حقه، والنساء كالرجال، قال: هذا هو الذي يقتضيه النظر؛ لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة ما يجوز للرجل أن ينظر من الرجل، لقوله عليه السلام: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة، ولا يفض الرجل إلى الرجل في ثوب، ولا تفض المرأة إلى المرأة في ثوب، في أبي داود، فجعل عليه السلام المرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، ولأن النساء يغسلن المرأة كما يغسل الرجال الرجل اتفاقا، وقال ابن أبي زيد في الرسالة: لا تدخل المرأة الحمام إلا من علة، لما روي أنه محرم عليهن، ففي الحديث ستفتح لكم بلاد فيها الحمام لا يدخله الرجل إلا بمئزر ولا تدخله المرأة بمئزر ولا غيره، وعلى القول أيضا بأن جميع جسدها عورة للنساء، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة أنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء المشركين، فإنه عن ذلك أشد النهي، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يرى عورتها غير أهل دينها، قال وأرى أن دخولهن مكروه وهو الذي تحمل عليه الأحاديث سدا لذريعة دخولهن بغير مئزر، وورد نهيهن عاما، وحمل على وقت لم يكن لهن حمام مفرد، فقد قالت أم كلثوم: أمرتني عائشة - رضي الله عنها - فطليتها بالنورة، ثم طليتها بالحنا ما بين قرنها إلى قدمها في الحمام من حصب أصابها، فقلت لها: ألم تكوني تنهين النساء عن الحمامات؟ فقالت: إني سقيمة. وفي الجواهر: لا خلاف في تحريم دخول الحمام مع من لا يستتر، قال القاضي أبو بكر: فإن استتر دخل بعشرة شروط: أن لا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير؛ وأن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس؛ وأن تكون سترته صفيقة؛ وأن يطرح بصره إلى الأرض ويستقبل الحائط لئلا يرى محرما؛ وأن يغير ما رأى من منكر برفق، يقول: استر سترك الله؛ وأن لا يمكن أحدا من عورته إن دلكه من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته؛ وأن يدخل بأجرة معلومة بشرط أو عادة؛ وأن يصب الماء على قدر الحاجة؛ التاسع: وإن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كراهية؛ العاشر: أن يتذكر عذاب جهنم، فإن لم يمكنه ذلك كله فليجتهد في غض البصر. فائدة: وقع في تاريخ القيروان عن فقيهين كان أحدهما أعلم من الآخر، وكان الآخر أسعد في الجواب، فسأل الأمير الأعلم منهما: هل يجوز لي دخول الحمام مع جواري في خلوة عراة؟ فقال: نعم، فقال له الأسعد في الجواب: لا يجوز؛ لأنك وإن جاز لك النظر إليهن، فإنهن لا يجوز لهن النظر بعضهن إلى بعض، فكان الصواب معه. وفي القبس: رأيت رؤية إذا عاينت ببصرك، ورأيت رأيا إذا اعتقدت بقلبك، ورأيت رؤيا إذا رأيت في منامك، وقد تستعمل في اليقظة رؤيا، وفي الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، قال صاحب المنتقى قال جماعة من العلماء: وكل الله تعالى ملكا يرى الرائي ما ينبهه على ما يكون، ومعنى جزء من ستة وأربعين أن مدة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثا وعشرين سنة، منها ستة أشهر نبوءة بالرؤيا، قالت عائشة رضي الله عنها: فأول ما بدئ عليه السلام بالرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، وستة أشهر من ثلاث وعشرين جزء من ستة وأربعين، وقيل أجزاء من النبوة لم يطلع عليها، وروي: جزء من خمسة وأربعين، وروي: من سبعين أن يكون ذلك اختلافا من الرؤيا، فيحمل الأقل على الجلية، والأكثر من العدد على الرؤيا الخفية، أو تكون الستة والأربعون هي المبشرة، والسبعون هي المحزنة والمحزنة لقلة تكرره، ولما يكون من جنسها من الشيطان، وفي القبس: روي أيضا: خمسون وستون جزءا من النبوة، وخمسة وأربعون، فاختلفت الأعداد؛ لأنها رؤيا النبوة لا نفس النبوة، وجعلت بشارات فأعطى الله تعالى من فضله جزءا من سبعين في الابتداء، ثم زاد حتى بلغت خمسا وأربعين، وتقسيمها بمدة النبي صلى الله عليه وسلم باطل؛ لأنه مفتقر لنقل صحيح، والأحسن قول الطبري عالم القرآن والسنة: إن نسبة عدة الأعداد إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف حال الرائي، رؤيا الصالح على نسبته، والذي على درجته دون ذلك، وقوله عليه السلام: ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤية الصالحة حض على تعليمها والاهتمام بها ليبقى لهم بعده - عليه السلام - جزء من النبوة بشر بذلك عليه السلام أمته، ولا يعبر إلا من يعلمها ويحسنها وإلا فليترك. وسئل مالك: أيفسر الرؤيا كل أحد؟ قال فبالنبوة يلعب، قيل أيفسرها على الخير وهي عنده على الشر (لقول من يقول: الرؤيا على ما أولت، فقال الرؤيا جزء من أجزاء النبوة، أفيتلاعب بأمر النبوة، وفي الموطأ: الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان) فإذا رأى أحدكم الشيء يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات إذا استيقظ وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره إن شاء الله تعالى، قال: فيحتمل أن يريد بالرؤيا الصالحة المبشرة، ويحتمل الصادقة من الله تعالى. ويريد بالحلم ما يحزن، ويحتمل أن يريد به الكاذب يخيل به ليضر أو يحزن، قال ابن وهب: يقول في الاستعاذة إذا نفث عن يساره: أعوذ بمن استعاذت به ملائكة الله ورسله من شر ما رأيت في منامي هذا أن يصيبني منه شيء أكرهه، ثم يتحول على جانبه الآخر. وفي المقدمات: الفرق بين رؤيا الأنبياء وغيرهم أن رؤيا غيرهم إذا أخطأ في تأويلها لا تخرج كما أولت، رؤيا غير الصالح لا يقال فيها: جزء من النبوة، (وإنما يلهم الله الرائي التعوذ إذا كانت من الشيطان أو قدر أنها لا تصيبه، وإن كانت من الله فإن سر القدر قد يكون وقوعه موقوفا على علم الدعاء). تنبيه: في القبس قال صالح المعتزلي: رؤية المنام هي رؤية العين، وقال آخرون هي رؤية بالعينين، وقال آخرون هي رؤية بعينين في القلب يبصر بهما وأذنين في القلب يسمع بهما، وقالت المعتزلة: هي تخاييل لا حقيقة لها ولا دليل عليها، وجرت المعتزلة على أصولها في تحيلها على العامة في إنكار أصول الشرع في الجن وأحاديثها والملائكة وكلامها، وأن جبريل عليه السلام لو كلم النبي صلى الله عليه وسلم بصوت لسمعه الحاضرون. وأما أصحابنا فلهم ثلاثة أقوال: قال القاضي: هي خواطر واعتقادات؛ وقال الأستاذ أبو بكر: أوهام، وهو قريب من الأول؛ وقال الأستاذ أبو إسحاق: هو إدراك بأجزاء لم تحلها آفة النوم، فإذا رأى الرائي أنه بالمشرق وهو بالمغرب أو نحوه، فهي أمثلة جعلها الله تعالى دليلا على تلك المعاني، كما جعلت الحروف والأصوات والرقوم الكتابية دليلا على المعاني، فإذا رأى الله تعالى أو النبي عليه السلام فهي أمثلة تضرب له بقدر حاله، فإن كان موحدا رآه حسنا، أو ملحدا رآه قبيحا، وهو أحد التأويلين في قوله عليه السلام: رأيت ربي في أحسن صورة. قال وقال لي بعض الأمراء رأيت البارحة النبي عليه السلام في المنام أشد ما يكون من السواد، فقلت: ظلمت الخلق وغيرت الدين، قال عليه السلام الظلم ظلمات يوم القيامة، فالتغيير فيك لا فيه، وكان متغيرا علي وعنده كاتبه وصهره وولده، فأما الكاتب فمات، وأما الآخرون فتنصرا، وأما هو فكان مستندا فجلس على نفسه وجعل يعتذر، وكان آخر كلامه وددت أن أكون حميا بمخلاة أعيش بالثغر، قلت: وما ينفعك أن أقبل أنا عذرك، وخرجت، فوالله ما توقفت لي عنده بعد ذلك حاجة. تنبيه: قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: النوم ضد الإدراك اتفاقا، والرؤيا إدراك يمثل كما تقدم، فكيف يجتمع مع النوم؟ وأجاب بأن النفس ذات جواهر، فإن عمها النوم فلا إدراك ولا منام، وإن قام عرض النوم ببعضها قام إدراك المنام بالبعض الآخر، ولذلك أن أكثر المنامات إنما تحصل آخر الليل عند خفة النوم. مسألة تقدم أن المدرك إنما هو المثل، وبه خرج الجواب عن كون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الآن الواحد في مكانين، فأجاب الصوفية بأنه عليه السلام كالشمس ترى في أماكن عدة وهي واحدة وهو باطل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه زيد في بيته ويراه الآخر بمحلته داخل بيته أو في مسجده، والشمس لا ترى إلا في مكان واحد، ولو رئيت في بيت إنسان لما رئيت في بيت آخر في ذلك الزمان، فظهر أن الحق ما يقوله العلماء وهو أن المدرك المثل لا نفس الحقيقة، وأنه معنى قوله عليه السلام من رآني فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي: من رأى مثالي فقد رأى مثالي حقا فإن الشيطان لا يتمثل بمثالي، وأن الخبر إنما يشهد بعصمة المثال عن الشيطان، ونص الكرماني في كتابه الكبير في تفسير المنام أن الرسل والكتب المنزلة والملائكة والسحب أيضا كذلك، وما عداه من المثل يمكن أن تكون حقا ويمكن أن تكون من قبل الشيطان. مسألة قال العلماء: لا تصح رؤية النبي عليه السلام قطعا إلا لرجلين: صحابي رآه، أو حافظ لصفته حفظا حصل له من السماع ما يحصل للرائي له عليه السلام من الرؤية حتى لا يلتبس عليه مثاله مع كونه أسود أو أبيض وشيخا أو شابا إلى غير ذلك من صفات الرائين الذي يظهر فيه كما يظهر في المرآة أحوال الرائين، وتلك الأحوال صفة للرائين لا للمرآة. قلت لبعض مشايخي رحمهم الله: فكيف يبقى المثال مع هذه الأحوال المتضادة؟ قال لي لو كان لك أب شاب فغبت عنه، ثم جئته فوجدته شيخا أو أصابه يرقان فاصفر أو اسود لونه ألست تشك فيه؟ قلت: لا، فقال لي: ما ذاك إلا لما ثبت في نفسك من مثاله، فكذلك من ثبت في نفسه مثال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا لا يشك فيه مع تغير الأحوال، وإلا فلا لا يثق بأنه رآه عليه السلام، بل يجوز أن يكون هو ويجوز أن يكون غيره، وإذا صح له المقال فالسواد يدل على ظلم الرأي، والعمى يدل على عدم إيمانه؛ لأنه إدراك ذهب، وقطاع اليد يدل على أنه منع من ظهور الشريعة وأضعفها، وكونه أمرد يدل على استهزائه بالنبوة؛ لأن الشاب يحتقر، وكونه شيخا يدل على تعظيمه للنبوة؛ لأن الشيخ يعظم ونحو ذلك. فرع: فلو رآه في النوم فقال له: إن امرأتك طالق ثلاثا وهو يجزم بأنه لم يطلقها هل تحرم عليه؟ وقع فيه البحث بين الفقهاء، والذي يظهر أن إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة مقدم على الخبر في النوم لتطرق الاحتمال للرائي بالغلط في ضبط المثال، وكذلك لو قال له عن حرام إنه حلال أو عين حكما من الشريعة، قدمنا ما ثبت في اليقظة على ما رئي في النوم لما ذكرنا، كما لو تعارض خبران من أخبار اليقظة فإنا نقدم الأرجح، تنبيه: لو رأى شخصا في النوم فقال له: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال له شخص آخر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليه، لا يثق بهذا، بل يجوز أن يكون صدقا ويجوز أن يكون شيطانا كذب لنفسه أو كذب لغيره فلا يثق به. مسألة تقدم أن دلالة هذه المثل على المعاني كدلالة الألفاظ والرقوم عليها، فاعلم أنه يقع فيها جميع ما يقع في الألفاظ من المشترك والمتواطئ والمترادف والمتباين والمجاز والحقيقة والعموم والخصوص والمطلق والمقيد حتى يقع فيها ما للعرب من المجاز في قولهم أبو يوسف أبو حنيفة، والقلب والتصحيف، كالفيل (هو ملك عجمي وهو الطلاق الثلاث نص عليه الكرماني) والمتواطئ كالشجرة هي رجل أي رجل كان دالة على القدر المشترك بين الرجال، ثم إن كانت نبتت في العجم فهو عجمي، أو عند العرب فهو عربي، أو لا ثمر لها فلا خير فيه، أولها شوك فهو كثير الشر، أو ثمرها له قشر فله خير لا يوصل إليه إلا بعد مشقة، أو لا قشر له كالتفاح فيوصل لخيره بغير مشقة إلى غير ذلك، وهذا هو المقيد والمطلق فيقيد بالأمور الخارجة، ولذلك يقع التقييد بأحوال الرائي، فالصاعد على المنبر بلا ولاية إن كان فقيها فقاض، أو أميرا فوال، أو من بيت الملك فملك، إلى غير ذلك، ولذلك ينصرف للخير بقرينة الرائي وحاله وظاهرها الشر، وينصرف للشر بقرينة الرائي وظاهرها الخير، كمن رأى أنه مات، فالخير ماتت حظوظه وصلحت نفسه، والشرير مات قبله، لقوله تعالى: "أومن كان ميتا فأحييناه" أي كافرا فأسلم. والمترادف كالفاكهة الصفراء تدل على الهم، وحمل الصغير يدل عليه أيضا، والمتباين كالأخذ من الميت والدفع له، الأول جيد والثاني رديء، والمجاز والحقيقة كالبحر هو السلطان حقيقة ويعبر به عن سعة العلم مجازا، والعموم كمن رأى أن أسنانه كلها سقطت في التراب يموت أقاربه كلهم، فإن كان في نفس الأمر إنما يموت بعض أقاربه قبل موته فهو عام أريد به الخصوص، وأما أبو يوسف أبو حنيفة فكالرؤيا ترى الشخص والمراد من هو يشبه أو بعض أقاربه أو من يتسمى باسمه ونحو ذلك ممن يشاركه في بعض أحواله، وهو معنى قول العرب: أبو يوسف أبو حنيفة، أو زيد زهير شعرا، وحاتم جودا، فعبروا باللفظ الثاني عن الأول مجازا لمشاركته له في تلك الصفة. والقلب كما رأى المصريون أن رواشا أخذ منهم الملك، فعبر لهم بأن ساور يأخذ الملك منهم وقلب برواش ساور بالسين المهملة وتصحيف ساور بشاور بالشين المعجمة، ورأى صاحب العرب قائلا يقول له: خالف الخف من عذر، فقيل له يقصد النكث في أيمان حلفتها لقوم والملك يحذرك من ذلك في الرؤيا ويقول لك خالف الحق من عذر، فدخله التصحيف فقط، وتفاصيل الرؤيا مبسوطة في علم التأويل. مسألة قال الكرمان: في الرؤيا ثمانية أقسام، سبعة لا تعبر، وواحد يعبر فقط، فالسبعة ما نشأ عن الأخلاط الأربعة الغالبة على الرائي، فمن عليه الدم رأى اللون الأحمر والحلاوات وأنواع الطرب؛ أو الصفراء رأى الجدور والألوان الصفر والمرارة؛ أو البلغم رأى المياه والألوان البيض والبرد، أو السوداء رأى الألوان السود والمخاوف والطعوم الحامضة، ويعرف ذلك بالأدلة الطبية الدالة على غلبة ذلك الخلط على ذلك الرأي، الخامس: ما هو من حديث النفس ويعلم ذلك بجولانه في النفس في اليقظة، السادس: ما هو من الشيطان ويعرف بكونه يأمر بمنكر أو بمعروف يؤدي إلى منكر، كما إذا أمره بالتطوع بالحج (فيضيع عائلته أو أبواه) والسابع: ما كان احتلاما. والذي يعبر هو ما ينقله ملك الرؤيا من اللوح المحفوظ، فإن الله تعالى أمره أن ينقل لكل أحد أمور دنياه وأخراه علمه من علمه، وجهله من جهله من اللوح المحفوظ، كذلك قاله الكرماني.
|